"نحو مشروع سياسي تحرري وديمقراطي"

يُمارَس على منطقتنا عنف ممنهج ومدروس، مصمَّم لتفكيك مجتمعاتنا على أساس هوياتي، وإفقارها وإخضاعها ضمن شبكات زبائنية، ووضع اليد على أرضنا ومواردنا، لخدمة مصالح رأس المال والاستعمار. وتأتي الإزالة العرقية والإبادة وخطة ترمب في غزة وفلسطين، واستهداف بلدان المنطقة، في هذا السياق. ولا يمكن فصل مسألة احتلال فلسطين عن سائر مجتمعات المنطقة. كما أن تمكُّن شعوب المنطقة من مقدراتها وقرارها خطوة أساسية لهزيمة المشروع الصهيوني. بالتالي، ينبغي لمواجهة هذا المشروع القمعي أن تكون هي أيضًا ممنهجة ومدروسة.

وعليه، شاركت تنظيمات وشخصيات سياسية وثقافية من فلسطين ومصر والأردن وسوريا ولبنان في لقاء سياسي عقد في 18 و19 تشرين الأول في بيروت، نظرًا إلى استحالة عقده في فلسطين، بهدف الدفع نحو مشروع سياسي تحرريّ وديمقراطي. ونعرض هنا بعضًا ممّا نوقش خلال هذا اللقاء السياسي.

مشروع بديل عن الموجود

لا يمكن أن يكون المشروع التحرري عنواين عامة أو شعارات، ولا مجرد انتقاد للسلطات الموجودة، ولا مطالَبة لها. بل عليه أن يكون بديلًا عن الموجود، أي أن يطرح خيارات سياسية مجتمعية واقتصادية محددة، وقرارات مصممة لإعادة لُحمة ما فُكّك، ولتحرير الأرض التي سُلِبت والبشر الذين أُسِروا في حاجتهم إلى لقمة العيش. أي أن يكون مشروعًا بديلًا عن الموجود، مصممًا لتغيير أشكال السلطة الموجودة.

وفي فلسطين تحديدًا، لا مكان لطروحات مساوِمة مع المشروع الصهيوني، كطرح الدولتين أو السعي لنيل ما يسمى بالحقوق المتساوية مع المستوطنين. ولا يمكن أن تبقى المقاومة المسلحة سبيل المواجهة الوحيد، لا سيّما في وجه عدو يستهدفنا في السرديّة والاقتصاد ورأس المال والإعلام والعلاقات الدولية وغيرها. فلا بد من تأطير جهودنا لمواجهته في كل هذه الساحات، دون إغفال السلاح.

ولا بد أن تؤطَّر أدوات المواجهة هذه في مشروع على نقيض تام مع المشروع الصهيوني. يبرز هنا خيار العودة إلى المشروع التحرّري الفلسطيني التاريخي لدولة فلسطينية ديمقراطية واحدة، من النهر إلى البحر، وهي رؤية أعلن تبنّيها قادةُ المقاومة عبر العقود، بما في ذلك خلال العامين الماضيين. لكنها في الوقت نفسه تنطوي على إشكاليات ومخاطر ينبغي أخذها في الحسبان.

فالاستعمار قسّمنا عمدًا. وإن تفتيت شعوبنا وتفكيك مجالنا الحيوي مقارَبة مدروسة منه لتأبيد التبعية واستدامة الهيمنة. لذا، على المشاريع السياسية في منطقتنا أن تدرك الربط العضوي بين مجتمعاتنا، وأن تعمل على بناء جبهة تتجاوز حدود التبعية واستدامة الهيمنة لتؤسس لنضال مشترك. وذلك دون أن تغفل عن التعامل مع القضايا المحلية.

مشروع يصون المجتمع من التفتيت الهوياتي

إن الهوية الفردية أو الجماعية هي ما يميّزنا عن الآخر. وعليه، فإن توظيفها في السياسة عامل مفتِّت حتمًا. ومع أن الاستعمار ليس من ابتكر منطق الهويات، فهو وظّفها وما زال يوظّفها لتفتيت المجتمعات على كلّ الكرة الأرضية. ونرى تجليات مختلفة لذلك في منطقتنا: أردني/فلسطيني في الأردن، نظام التحاصص الطائفي في لبنان، نظام الأسد ونظام الجولاني والإدارة الذاتية وقوى الأمر الواقع الأخرى في سوريا، تقسيم العراق الهوياتي، توظيف تركيا وإيران للهويات، وطبعا دولة الاحتلال والاستيطان الصهيونية في فلسطين.

لذا نحن بحاجة إلى قطيعة مع المشاريع الهوياتية وتبني مشروع على نقيض ذلك، أي إلى سياسات محددة لحماية المجتمع وإعادة لُحمته، وذلك على مستوى الحدود الإدارية ونسبة الصلاحيات المحلية وتوزيع الموارد، والمنهاج الدراسي بمحتواه ووحدته، وتأمين الحقوق الأساسية كالطبابة والتعليم، والقانون الانتخابي، وتسهيل التنظيم المصالحي الحزبي والنقابي وغيره بحيث يستطيع المجتمع العمل على أساس مصالحه. وهذا ما يتطلب تعاملًا مدروسًا مع المشاريع الهوياتية في الإقليم. فعوضًا عن الاصطفاف السطحي والمطلق إما مع أو ضد دول مثل تركيا أو إيران، تكمن مسؤوليتنا في إدراك تأثير مشاريعها وتحديد التقاطع والتضارب بينها وبين مشروعنا التحرري والديمقراطي والتعامل معها على هذا الأساس.

مشروع لاقتصاد منتج من أجل مجتمع حر

يحمي الاقتصاد المنتج التنموي المتطور أفراد المجتمع من التبعية الزبائنية للزعيم أو السلطة، ويحمي المجتمع ككلّ من الارتهان للخارج. لذا ليس الاقتصاد موضوعًا تقنيًّا يمكن إيكاله لما يسمى بالأخصائيين، بل هو ضرورة من أجل بناء مجتمع حر. لذلك يشكل الطرح الاقتصادي جزءًا لا يتجزأ من أي مشروع تحرري وديمقراطي.

إن الرأسمالية مبنية على فكرة استفادة أصحاب رأس المال من عمل العمال. لذا، هي قمعية بجوهرها. كما أن تكديس الثروات يسمح باحتكار القدرة الزبائنية والإعلامية والتنظيمية، وبالتالي احتكار القرار السياسي. والرأسمالية تشكل أساس استيطان فلسطين والإبادة الحالية والأنظمة العربية الرجعية. لذا، إن التحرّر والديمقراطية على نقيض الرأسمالية. كما تبرز الحاجة إلى اكتساب أدوات تحليلية علمية دون تجميدها في أيديولوجية مستقلة عن الظرف وغير خاضعة للنقد.

الانتظام حول المشروع

لن يبصر أي مشروع النور دون تأطير جهود عدد كافٍ من الناس للعمل على فرضه. لذا، على أفراد مجتمعاتنا الانتظام حول المشروع. وهذا يعني تجاوز أُطر العمل المعتادة على ثلاثة مستويات على الأقل: أوّلًا، تخطّي النضال الفردي، وغالبًا ما يكون إلكترونيًّا و/أو نخبويًّا، نحو انتظام المرء في تنظيمات سياسية. وهذا ما يتطلب فهم ممانعة الغالبية الساحقة من المجتمع للانتظام السياسي كخطوة أولى نحو معالجة هذه الممانعة. وندعو للانخراط في تنظيمات سياسية تحمل مشروعًا تحرريًا وديمقراطيًا.

وثانيًا، تبني المجموعات السياسية الموجودة لمشروع سياسي تحرري وديمقراطي. وهذا ما يتطلب تخصيص الوقت لتحديد الهدف طويل الأمد، دون إغفال الآني. كما يتطلب بناء المعرفة والقدرة النقدية لتحليل الواقع وتحديد المشروع ثم التنظيم حوله. وندعو المجموعات السياسية في منطقتنا إلى ذلك.

وثالثًا، التشبيك والعمل الائتلافي بين المجموعات التي تتشارك، بدرجات مختلفة، في الرؤية السياسية. وهذا ما يتطلب نقاشًا بين القوى المختلفة حول الرؤية السياسية أو الحل المرجو. كما يتطلب العمل المشترك على مشاريع سياسية محددة. ويبرز هنا مثال مؤسسة "مجتمع" الإعلامية والتي ندعو إلى دعمها بكافة الوسائل. كما نطرح بداية العمل على خلق مساحة لتبادل الأفكار نحو جهد إعلامي وتثقيفي وميداني مشترك. وندعو الراغبين في تخصيص الوقت للعمل على ذلك إلى التواصل معنا للمتابعة نحو تبني مشروع سياسي تحرري وديمقراطي والانتظام حوله.

يمكنكم مشاهدة تسجيل اللقاء عبر هذا الرابط. كما ندعوكم للتسجيل والانخراط في عمل المبادرة.

المجموعات والشخصيات المشاركة: إياد خليف (صحافي)، أحمد جبر (عضو في رابطة العمل الثوري)، ألكسي حداد (عضو في مواطنون ومواطنات في دولة)، بيسان عدوان (صحفية فلسطينية)، جابر سليمان (باحث وعضو مؤسس في مركز حقوق اللاجئين/عائدون – لم يستطع الحضور)، جوزيف ضاهر (أكاديمي وناشط يساري من أصل سوري)، حسن شاهين (كاتب وصحفي فلسطيني)، حيان جابر (عضو في كل فلسطين)، سلمى الحافي (منسقة في مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة)، ريكاردو محرز (رئيس الاتحاد الفلسطيني في أمريكا اللاتينية – لم يستطع الحضور)، سهيل ياسين (منسق في مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة)، صلاح عبد العاطي (رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني)، عبادة كسر (عضو في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان)، حسن مصطفى (منسق تيار الثورة الاشتراكية)، محمد زريعي (منسق في مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة)، مروان رضوان (عضو في رابطة العمل الثوري)، مزنة الشهابي (مستشارة سابقة في منظمة التحرير الفلسطينية)، هشام البستاني (كاتب وأكاديمي أردني ومؤسس "غاز العدو احتلال").

Scroll to Top