يبدو أن العمل على إخراج حماس من المشهد السياسي بما يعنيه من هزيمة لمشروع المقاومة الفلسطينية ليس مشروعاً يتقاسمه الكيان الصهيوني مع الإدارة الأميركية فقط، بل هو ايضاً مشروع النظام الرسمي العربي.
القمة العربية المصغرة في الرياض في 21 فبراير استثنت وبشكل متعمد الطرف الفلسطيني ممثلا بالسلطة الفلسطينية في رام الله وبالطبع لن يكون هناك مكان لحماس المدعوة للانسحاب بشكل كامل من المشهد الفلسطيني.
قبل هذا التاريخ بقليل وفي مؤتمر القمة الإفريقية المنعقد في أديس أبابا يومي الخامس عشر والسادس عشر من فبراير لم يلتق الرئيس الجزائري "تبون" بنظيره الفلسطيني، بل تعمد أن يتجنبه لكيلا تجري مصافحة بينهما في قاعة المؤتمر.
هذه التطورات غير المألوفة تتزامن مع التطرف في المواقف الأمريكية :السفير "هاكابي" يصرح بأن ترامب سوف يتخذ إجراءات تلمودية بخصوص الملف الفلسطيني فيما يصرح الوزير "روبيو" في زيارته للمنطقة بأن لا مكان لنقاش حل الدولتين، بل لتنظيم هجرة الغزيين والتأكد من عدم عودة حماس لحكم غزة.
من جهة أخرى جرى الإعلان عن تأجيل القمة الى بداية آذار لكي يتسنى للدول العربية صياغة مشروع مضاد لمشروع التهجير الترامبي لغزة. هنا، يتقدم النظام الرسمي العربي بوصفه مُنقذاً لفلسطين وحامٍ لشعبها في غزة ضد ما يخطط له امريكياً وإسرائيلياً. وهذا المشروع العربي المضاد للمشروع الأمريكي-الإسرائيلي سوف يُستخدم بنجاح من قبل الأنظمة العربية للعودة بقوة إلى موقع المقرر المركزي في الشأن الفلسطيني وسيكون من جهة أخرى ذراً للرماد في عيون الشعوب العربية التواقة لنصرة فلسطين وشعبها.
المشروع العربي والذي سيعرض على مؤتمر القمة القادم سوف يقدم خطة وحيدة من أجل مواجهة خطة التهجير وسيكون ثمن هذه الخطة على أرجح الأحوال تخلي النظام الرسمي العربي عن "حل" الدولتين مقابل وقف التهجير، أي وقف التهجير مقابل التطبيع.
في هذا السياق سوف تتخلص السعودية من اصرارها على ربط دخولها في التطبيع مع إسرائيل بشرط تطبيق "حل" الدولتين إذ سوف يُستعاضُ عنه إعلان "الانتصار" السعودي على المشروع الأميركي بتهجير الفلسطينيين من ديارهم وهذا سوف يُقدم كانتصار "عظيم"، تستطيع السياسة السعودية استثماره للمضي قدماً في التطبيع الذي بدأ بالفعل بأشكال مُخففة ومن وراء الستار. وهكذا ستنزل السعودية عن الشجرة التي صعدت اليها دون ان تقدم ولو مثقال ذرة لترجمة هدفها في قيام الدولة الفلسطينية.
إن تغيير هذه المعادلة السعودية سيحقق لها الظهور بمظهر المنتصر على المشروع الأمريكي الإسرائيلي كما سوف يحقق هدفا مركزياً لها وهو استبعاد حماس نهائيا من المعادلة الفلسطينية ملتقيةً بذلك مع موقف دولي (غربي-أميركي-اسرائيلي) واسع. وهكذا، فإن دور النظام الرسمي العربي في "اليوم التالي" سوف يمثل التقاء المواقف الأميركية-الأوروبية-الاسرائيلية في التخلص من المقاومة الفلسطينية فعزل حماس هو عزل لفكرة المقاومة ولجدواها ، تلك الفكرة التي تقض مضاجع النظام الرسمي العربي كما تقض مضاجع الكيان الصهيوني وحليفه الأميركي وكلما زادت حدة الخطاب الأميركي والإسرائيلي تطرفاً وجنوناً بشأن التهجير يزداد الهلع من قبل النظام الرسمي العربي على ما يسمى "بالأمن القومي العربي" والذي سوف يكون عرضة للخطر بفعل خطة التهجير هذه.
إذن، ولأول مرة، يعلن هذا النظام الرسمي العربي بوضوح بأن المقاومة هي السبب في مخاطر وخيمة قد يتعرض لها أمنه القومي وهذا الربط يجعل من المقاومة الفلسطينية في موقع المتهم وليس في موقع الضحية التي تحاول جاهدةً استعادة حقوقها المشروعة.
لسان حال هذا النظام يرطن بلغة لم تعد مبهمةً كما كانت عليه في الماضي القريب، بل تعلن وعلى رؤوس الأشهاد بضرورة التخلص من المقاومة لكيلا يكون هناك نكبة فلسطينية جديدة ولكي يحافظ النظام الرسمي على أمنه القومي. وهنا، استبعاد السلطة من القمة المصغرة لقادة الخليج ومصر والأردن والسعودية لتحضير مؤتمر القمة القادم هو استبعاد لفلسطين ككل وليس لفلسطين المقاومة فقط، وهم بذلك يتوافقون مع الاشتراط الإسرائيلي بأن لا مكان لحماس أو للسلطة في حكم غزة في اليوم التالي. وهذا يجعل من تصوير الخطة العربية المضادة لخطه ترامب كنصر لفلسطين وكحماية للأمن القومي العربي ليس سوى استكمالاً للحرب الدموية على قطاع غزة لإخضاع المشروع الوطني الفلسطيني وتدمير القضية الوطنية الفلسطينية.
وهكذا يبدو وبوضوح بأن هناك تكاملا ما بين المصالح الاستراتيجية للنظام الرسمي العربي مع المشاريع الصهيونية والأميركية وذلك عندما يجري تقديم فلسطين وقضيتها كخطر داهم على الأمن القومي العربي. وبالفعل هناك خطر على هذا النظام، ولكن مصدر هذا الخطر ليس العدو الخارجي المتمثل بإسرائيل أو بالسياسة الأمريكية أو بمقاومة" غير مسؤولة" و"مغامرة" (هذا يذكرنّا بشعار الملك حسين في ان هناك فدائي شريف وآخر لا) وإنما هو خطر داخلي مصدره الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها والمتضامنة صمتاً مع قضية فلسطين وشعبها.
إن مؤتمر القمة القادم هو مؤتمر استعادة فلسطين من يد أصحابها إلى يد الأنظمة العربية وهذا سيضع الحد النهائي للاستقلالية الفلسطينية والتي انتزعتها منظمة التحرير منذ ان جرى الاعتراف بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وذلك تحت وابل من الخطابات المضللة والتي سوف تعمل جاهدةً على إخفاء الحقيقة الكبرى ألا وهي أن فلسطين لم تعد قضية مركزية عربية، بل إن أمن هذه الأنظمة هو قضية الساعة الأكثر إلحاحاً وأهمية .
الانقضاض على التمثيلية الفلسطينية واستعادتها للحظيرة العربية هو ترجمة فعلية لبدء مرحلة الحسم لكل رهانات السنوات الثلاثون الأخيرة وأولها قضية "الدولة-البانتوستان" المتعايشة مع دولة الكيان الصهيوني عبر "سلام الشجعان" والاعتراف المتبادل وحكايات "السلام" مع منظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي والتي لا تقبل أقل من بسط سيطرتها على فلسطين كاملة بحدودها الانتدابية من النهر الى البحر.
"الإرهاب الذي يمارسه "البعبع" الترامبي والتلويح بخطر النكبة القادمة يهدف أساساً الى استعادة التمثيلية الفلسطينية من يد منظمة التحرير ومن يد حماس فكلاهما سيان بنظر هذا النظام الرسمي العربي إذ أن تنازلات الأولى عن الثوابت الوطنية الفلسطينية وتقسيمها للشعب والأرض والقضية لم تكن كافيةً للنهم الاستيطاني الصهيوني ولم تعد بذات إنتاجية إذ أدت دورها المطلوب منها بإفقاد القضية الفلسطينية لكل وهج نضالات شعبها وتضامن أحرار العالم معها. أما الثانية، فليس مطلوباً منها أقل من الانسحاب النهائي من حقل النضال الفلسطيني وليس إفقادها فقط لطموحاتها لما-قبل 7 أكتوبر بتمثيل النضال الفلسطيني وقضية الشعب الفلسطيني. بالطبع، حالة الانقسام الفلسطيني العميق هي السلاح الناجع بيد النظام الرسمي العربي في تعريب النضال ضد جميع محاولات "فلسطنته" والتي كانت سبباً لدخول متاهات أوسلو.
من الآن وصاعداً، لا يحتاج النظام الرسمي العربي لقرارات فلسطينية "كارثية" كبرنامج "النقاط العشرة" لعام 1974 والتي مهدت لاتفاقيات أوسلو المشؤومة لتبرير تراجعاته ومساوماته إذ لم يتبق الكثير من تلك ال%22 المتبقية من فلسطين ولم يعد هناك سوى تحقيق انسحاب اسرائيلي من قطاع غزة ومنع تهجير أهله، أي حماية ال 1.3% من فلسطين، تلك "الحماية" بما هي استثمار مربح في عملية التستر على حقيقة التكامل ما بين المشروع الأميركي-الإسرائيلي والرسمي العربي .
إن التراجعات العربية لم تعد مرتهنة بالتراجعات الفلسطينية وذلك بتجاوزها للكل الفلسطيني المقاوم والمساوم. وهكذا، وبمواجهة هذه التطورات الخطيرة على القضية الوطنية والتي لم تشهدها من قبل، هل سينهض الفينيق الفلسطيني أمام هذا الطوفان الجامح ليخلق طوفاناً فلسطينياً يستعيد فيه الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة زمام قضيتهم ولكي يستعيدوا وحدتهم بمواجهة الصراع العبثي ما بين طرفي المقاومة والمساومة ؟ هل سيجرف هذا الطوفان الفلسطيني أولاً سياسات التنسيق الأمني والتي حولت من الفدائي الى حارس للمستوطنة الصهيونية وثانياً لسياسات "العسكرة" ضيقة الأفق والقاصرة عن تقديم تصور شمولي لآليات التحرير على المدى الاستراتيجي البعيد؟
هل سيكون هناك طوفاناً فلسطينياً يعيد ترتيب أولويات النضال الفلسطيني على قاعدة الثوابت الفلسطينية في التحرير والعودة وإقامة دولة فلسطين الديموقراطية من النهر الى البحر؟