عقدت مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة مؤتمرين هامين في كل من العاصمة اللبنانية بيروت والإسبانية مدريد، في محاولة لخلق جو من الحوار الجاد والبناء حول مشروع تحرري وديمقراطي في فلسطين. جمع المؤتمران أسماء باحثين وناشطين بارزين من فلسطين والعالم، في لحظة تاريخية وفترة حساسة من صراع الشعب الفلسطيني مع المشروع الصهيوني.
مؤتمر بيروت
احتضنت بيروت أول مؤتمر لمبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة في 18 و19 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي حمل عنوان "نحو مشروع تحرري وديمقراطي"، نظرًا إلى استحالة عقده في فلسطين بسبب الاحتلال. أكّد المؤتمر على ضرورة خلق مشروع فلسطيني بديل عن الموجود، الذي ثبت فشله، مصممًا على أن يكون بديلًا لكل أشكال السلطات الموجود والهيمنة السائدة.
لذا أكّد المؤتمر رفضه القاطع لما يسمى "حل الدولتين"، أو تقديم حلول تهدف إلى جعل حقوق متساوية مع المستوطنين درة تاج التحرر، هنا يبرز مشروع التحرر الفلسطيني التاريخي المتمثل بحل الدولة الفلسطينية الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية.
كما أكّد المؤتمر على ضرورة أن يكون المشروع على خصام مباشر مع التسيس والتفتيت الهوياتي، وأن يكون صونًا لمجتمعاتنا من الخطابات التقسيمية الهوياتية، التي تسعى إلى تفكيك المجتمع، لذا تبنّى مشروعًا نقيضًا لذلك. أي سياسات محددة لحماية المجتمع وإعادة لُحمته، وذلك على مستوى الحدود الإدارية، ونسبة الصلاحيات المحلية، وتوزيع الموارد، والمنهاج الدراسي بمحتواها ووحدته، وتأمين الحقوق الأساسية، كالطبابة والتعليم، والقانون الانتخابي، وتسهيل التنظيم المصالحي الحزبي والنقابي وغيره بحيث يستطيع المجتمع العمل على أساس مصالحه. كما لم يغفل الجانب الاقتصادي، فأكّد على أن "يحمي الاقتصاد المنتج التنموي المتطور أفراد المجتمع من التبعية الزبائنية للزعيم أو السلطة".
مؤتمر مدريد
عُقد مؤتمر مدريد في السابع والثامن من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وحضره عدد من الباحثين البارزين والناشطين السياسيين. الذين أكّدوا على مركزية القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب يكافح استعمارًا استيطانيًا لا يعترف بالحلول الوسط، وعدالة المطالبة بتفكيك الأخير لصالح دولة ديمقراطية علمانية واحدة لكل مواطنيها.
أما عن سبل المواجهة، فأكّدت الكلمة الختامية على ضرورة المواجهة بالسردية، فقد جاء فيها "الدولة الديمقراطية الواحدة ليست رؤية سياسية فحسب، بل هي أيضًا سلاح مواجهة يخاصم شرعية الصهيونية ويعري أسسها الهوياتية"، كما أشارت إلى ضرورة فرض المواجهة بين سردية "الدولة اليهودية" و"الدولة الديمقراطية لكل مواطنيها" إطارًا لأي نقاش حول فلسطين.
كما كان نقاش التنظيم السياسي على اعتباره وسيلةً لفرض الخطاب حاضرًا في النقاش والبيان الختامي، إذ دعا "المجموعات السياسية إلى تكوين تحالفات وجبهات حول تلك الرؤية (الدولة الديمقراطية الواحدة)".
إنّ مؤتمري بيروت ومدريد خطوتان هامتان في مسار البحث عن مشروع تحرري فلسطيني جديد، يتجاوز منطق إدارة الأزمة إلى تبنّي رؤيةٍ تاريخية بديلة وعادلة وديمقراطية. لقد مثّل هذان اللقاءان مساحة التقاء الجهود من داخل فلسطين وخارجها، في لحظة يُعاد فيها إنتاج المشروع الصهيوني بأكثر أنماطه توحشًا، يستمر فيها المستوى الرسمي العربي والفلسطيني في التعويل على حلول ثبت فشلها، لا تضع العدالة للشعب الفلسطيني في صوب عيونها، بل تقدم حلولًا أمنيةً وديمغرافيةً لإسرائيل، مثل "حلّ الدولتين" أو ما شابهه.
ما طُرح في بيروت ومدريد لا يقتصر على نقد الواقع أو كشف عجزه، بل يحمل بذور مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي شامل، يستعيد المبادرة من قلب الهزيمة، ويعيد تعريف التحرر خارج قوالب السلطة والهيمنة.
إنّ الدولة الديمقراطية الواحدة، كما طرحتها المبادرة، ليست شعارًا طوباويًا، بل امتدادٌ طبيعيٌ لمسار طويل من نضال الفلسطينيين ضدّ الإبادة والاقتلاع والفصل العنصري، وهي دعوة لإعادة بناء المجتمع على أسس العدالة والمواطنة والكرامة والمخاصمة النهائية مع الصهيونية، وصياغة تحالفات وجبهات قادرة على تحويل الفكرة إلى قوة اجتماعية وسياسية فاعلة.
ورغم التحديات الهائلة، تؤكّد هذه المؤتمرات أن هناك تيارًا فلسطينيًا وعالميًا آخذًا في التكون، يرفض الاستسلام للواقع المفروض، ويصر على تخيل وبناء مستقبل مختلف، مستقبل لا تُقسم فيه الأرض ولا تُجزّأ حقوق الناس، بل تُصان وحدة الشعب الفلسطيني وتُستعاد قدرته على الفعل. من بيروت إلى مدريد، يتبلور سؤال التحرر من جديد، ويُعاد رسم الطريق نحو فلسطين حرّة، ديمقراطية، علمانية، لكل سكانها.
