"بوعزيزي" كان نموذجاً للقهر والفقر والبطالة وانعدام الأفق للشباب العربي، من المحيط إلى الخليج. لقد كان رمزاً لتحفيز الثورات الشبابية في حركة عارمة من الثورات الاجتماعية والديمقراطية في المقام الأول، ما كان بمثابة دخول العالم العربي بأكمله عصراً جديداً لحركات مطلبية لتأمين الخبز والحرية والكرامة المهدورة.
لقد فاجأت الثورة التونسية العالم أجمع عام 2011، وكانت مولداً لسلسة الثورات المتعاقبة في كل من مصر وسوريا تحديداً. ويمكن اعتبار هذه الثورة تكملةً لسلسلة الثورات السابقة لها، مثل الانتفاضة الفلسطينية عام 1987؛ الربيع الجزائري "القبائلي" عام 1988؛ الربيع التونسي مطلع عام 1990؛ ربيع دمشق مطلع عام 2000. ولكن لم يسبق لأي سابقة "ثورية" إحداث مثل هذا الطوفان "التسونامي" السياسي الذي سوف يغير ملامح المنطقة العربية ككل. إن إرجاع كل هذه الثورات إلى "عامل العولمة المتسارعة"، أو إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي انتشرت بكثافة، وبين الشباب تحديداً، أو إلى تأثير القنوات الفضائية، إنما هو تحليل قاصر، وإن لعبت هذه العوامل بعضًا من هذا الدور هنا وهناك. إن المركزي في هذا المشهد هو وصول النظام الرسمي العربي إلى مستويات متقدمة من الانحطاط السياسي والمجتمعي والاقتصادي، والقمع الأعمى والوحشي، وهو أكثر الأشكال تعبيراً عن بداية تآكل المنطق الاستبدادي واكتشاف الجموع لقدراتها على التغيير الذي طال انتظاره.
الربيع العربي والقضية الفلسطينية
وهكذا، بدا -وللوهلة الأولى- دخول المجتمعات العربية لحقل السياسة المحظور عليها دخوله منذ بدايات تشكل الدولة "الحديثة" السايكس-بيكوية لحقبة ما-بعد الاستعمار المباشر في المشرق العربي. وقد حمل هذا الدخول معه موضوعياً استعادة الشعوب للقضية الفلسطينية من أيدي الأنظمة، التي صادرتها لاستخدامها أداةً لستر عوراتها الكثيرة وأداةً لتبرير قمع الشعوب، بحجة التحضير لمعركة التحرير الكبرى لفلسطين.
لقد كان الربيع العربي ينذر بدخول المنطقة في مرحلةٍ ستعود القضية الفلسطينية فيها إلى جدول الأعمال، وإن لم تبد بالفعل قضيةً مهمةً ومُعلَنة في الحراكات الشعبية العربية. لقد كانت فلسطين في الجوهر من هذه الحراكات، رغم إزاحتها إلى مواقع خلفية؛ إذ شكلت على الدوام جرحاً مفتوحاً في الضمير الجمعي العربي، ورمزاً لإهانته ومثالاً على خطورة المشروع الصهيوني على المنطقة العربية، أراضيها وأمن شعوبها.
كان لا بدّ للنظام الرسمي العربي من اجتراح خطاب مضلل على شاكلة ما صرح به وزير الداخلية السوري في 28 يناير/كانون الثاني 2012، واصفاً المتظاهرين السوريين ببساطة "خارجين عن القانون"، و"عملاء مدفوعي الأجر لزعزعة استقرار سوريا وإضعافها"، وهي "القلب النابض للعروبة" و"القلعة المنيعة ضد العدو الصهيوني".
بعد انحسار ثورات "الربيع العربي" وهزيمتها، ورغم كل التغيرات التي أحدثتها أو مهّدت لها في البيئات العربية، بدت الكيانات السياسية الفلسطينية، في معظمها، بمثابة الغائب الأكبر عن كل هذه المناخات، بل الحائر الأكبر في كيفية التعاطي معها؛ إذ لم تفهم الطبقة السياسية الفلسطينية، بمختلف تياراتها، ظاهرة الربيع العربي، وهي التي نشأت وترعرعت على ادّعاءاتٍ تتعلّق بتثوير العالم العربي، إذ ثار الأخير بمعزل عن الحركة السياسية الفلسطينية، وذلك ضمن أجنداته الخاصة به لنيل حقوقه بالحرية وبالخبز، بمعزلٍ عن "قضية العرب المركزية الأولى".
مع أو ضد الحرية؟ مواقف فلسطينية وعربية متناقضة
أدخل عدم الفهم هذا الحركة الوطنية الفلسطينية، بفصائلها من صغيرها إلى كبيرها، إما في مواجهات واحتكاكات مجانية مع شعوب المنطقة، أو في تحالفات مع أنظمة الاستبداد علانيةً ضد شعوبها. وهذه المواقف المتناقضة عادت بنتائج كارثية على التجمعات الفلسطينية في عدد من بلدان المنطقة؛ إذ قدّمت بذلك للأنظمة وسائل للتلاعب بجموع اللاجئين في هذا البلد أو ذاك، ما كان لا بدّ له إلّا وأن ينعكس سلباً على صورة الفلسطيني ودوره، ومكانة قضيته من مجمل قضايا هذه الشعوب المنتفضة ضد حكامها وسياساتهم.
لقد انعكس هذا الأداء السلبي للطبقة السياسية الفلسطينية على حالة التعاطف المبدئي، بل والفطري، مع قضيتهم ومع كفاحهم من أجل حقوقهم. فعلى سبيل المثال، وقبل ثورات الربيع العربي، تعاطفت كل الفصائل الفلسطينية مع احتلال صدام حسين للكويت عام 1990، من دون التبصّر بأثر هذه الخطوة على شعب الكويت، ولا على وضع مئات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين في ذلك البلد، ولا على دلالات تحالف حركة تحرر وطني، يفترض أنها تمثل محرومين من الحرية ومن الوطن، مع نظام استبدادي، فضلًا عن دعمها احتلاله لبلد آخر. هذا التحالف مع النظام العراقي، الذي كان بمثابة إجماع فلسطيني رسمي كامل، تكرر في سوريا؛ إذ أبدت معظم فصائل العمل الوطني الفلسطيني (باستثناء حماس، لعمق علاقاتها الأخونجية بنظيرتها السورية) تحالفاً مع النظام الأسدي، رغم تاريخه الحافل بقتل شعبه، بما فيهم فلسطينيي سوريا وذكريات مجزرة تل الزعتر التي شارك فيها النظام الأسدي، ولم تكن بعدُ بعيدةً عن الأذهان.
هذا التناقض الفاضح قد يعود بجذره العميق إلى قصور إدراكات هذه الحركة لضرورة الربط بين مفهومي التحرير والتحرّر بشكل عام فلسطينياً (التحرير يتطلب التحرر الاجتماعي والفكري وتحرر الإنسان الفلسطيني ودمقرطة ثقافته السياسية والمجتمعية)، وبشكل خاص (تحرر الإنسان العربي من أنظمته الاستبدادية)، وذلك لحقيقة أن تحرير فلسطين يتطلب جهداً شعبياً عربياً مشاركاً للنضال الفلسطيني في مهماته التاريخية المعقدة. إن العلاقة الجدلية ما بين تحرر الإنسان العربي من نظمه الاستبدادية وتحرير فلسطين كانت غائبة عن الوعي السياسي الفلسطيني، وإن تمظهرت بخجل من وقت إلى آخر دون أن تترسخ عميقاً في هذا الوعي فتصيغ موقفاً فلسطينياً حازماً بصدد ضرورة تحرر هذه الشعوب من أنظمتها الوظيفية والمرتبطة بالمراكز الإمبريالية وبإسرائيل، وبالحركة الصهيونية إجمالاً.
وهكذا، كان التحالف مع البعض من هذه الأنظمة يتناقض في جوهره مع هدف التحرير الفلسطيني المنشود. ولعله في السياق ذاته أيضاً، يأتي رفع القضية الفلسطينية إلى مكانة القضية المركزية (نظرياً وخطابياً) مجرد مناورة لذرّ الرماد في عيون الشعوب العربية، لكيلا تكتشف تلك العلاقة المتينة ما بين هذه الأنظمة والكيان الصهيوني كمستعمرة ورأس حربة للتغلغل الرأسمالي-الإمبريالي في المنطقة المشرقية، وفي عمق مفاصل النظام الرسمي العربي. وهكذا أيضًا، راكم النضال الفلسطيني عامل عجز إضافي لبناه المختلة أصلاً، وذلك في إهماله لعلاقة النضال الوطني الفلسطيني بواقع المجتمعات العربية، وبمتطلباتها وأولوياتها وحاجاتها ونضالاتها من أجل الخبز والحرية.
هذا التواطؤ الفلسطيني مع النظام الرسمي العربي هو من قدمَ فلسطين وقضية شعبها لقمةً صائغة في فم هذا النظام المتحالف مع الإمبريالية وإسرائيل. إذ إن وهب بعض هذه الأنظمة "صك براءة" وطنية وقومية (أنظمة "جبهة الرفض" السابقة و"محور المقاومة" اللاحق الذي أُضيف له النظام الإيراني) جعل من قضية فلسطين مطية لهذه الأنظمة، لتكريس شرعيتها، وتبرير سياساتها السلطوية تجاه شعوبها، ولهيمنتها على موارد البلاد والعباد، الأمر الذي لا يستقيم لا مع التحرر ولا مع التحرير. لقد كان هذا السقوط للبعض الفلسطيني هو أول البوادر للتدهور التدريجي للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وصولاً لعقد اتفاقيات "أوسلو" المشؤومة التي استندت إلى شعار "يا وحدنا" (من المتوقع أن نكون لوحدنا على ضوء "الخيانة" الفلسطينية لطموحات الشعوب العربية بالتحرر من جلاديها من "أبطال" الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة).
في وسط كل هذا الضجيج: أصوات عربية حرّة
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى وجود بعض الأصوات الحرة التي لم تستسلم لتيار التخبط الفلسطيني الجارف هذا، وقد تكون تجربة المنظمة الشيوعية العربية القصيرة (1974-1975)، بمكوّنها الفلسطيني المركزي، وإن ضمت العديد من السوريين واللبنانيين إلى صفوفها، هي أولى الإرهاصات "الفلسطينية" المتمفصلة مع حقوق الإنسان العربي بالحرية والتحرر، وذلك باتجاه عكسي مع توجهات كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بيمينها ويسارها. فلقد كانت هذه المنظمة الفلسطينية-السورية-اللبنانية تجربةً حيّة لربط الحقوق الوطنية الفلسطينية بقضايا الإنسان العربي وحقوقه بالحرية والعدالة الاجتماعية؛ فالحقوق لا تتجزأ، كما هي المنظمة "العربية" التي لا تتجزأ.
في هذا السياق، نقتطف ما كتبه وائل السوّاح عن هذه التجربة الفريدة في نهاية مقال له: "لا يذكر معظم السوريين اليوم مناضلي "المنظّمة الشيوعية العربية"، ولكنهم يعرفون اللوحة الفاتنة التي رسمها يوسف عَبَدلكي بعنوان "دمشق، سبت الدم"، التي تؤرخ لليوم الذي أُعدم فيه الأعضاء الخمسة للمنظمة، كما يذكرون على الأرجح القصيدة الفاتنة لنزيه أبو عفش عن شهداء المنظمة.
وفي مقال آخر، يتابع قائلاً: "في النصف الثاني من سبعينات القرن…، كان رموز المنظمّة الشيوعية العربية يشعلون خيال وضمير اليسار السوري الجديد. لم تخلِّف المنظّمة إرثاً نظرياً، ولم تعش طويلاً لتخلِّف إرثاً نضالياً، ولكن مناضلي المنظّمة كانوا أيقونات عاشت في قلبنا طويلاً".1 هذا الإرث الثوري الذي خلفته "المنظمة الشيوعية العربية"، تابع فعله السياسي لكي يلتقط المناضل الفلسطيني (ابن بلدة بيرزيت)-السوري-العربي-الأممي، سلامة كيلة، في شعاره الشهير: "من أجل تحرير فلسطين، نريد إسقاط النظام" (2011).
لقد كانت إرهاصات "المنظمة الشيوعية العربية" ونضالات سلامة كيلة وغيره لتشكيل "الحزب الثوري العربي" الجامع للنضال الوطني (فلسطين) ونضال الشعوب العربية (وعلى رأسها الشعب السوري)، اجتماعياً وطبقياً، تمثِلُ تلك المحاولات للتصدي لذلك السلوك السياسي (غير المقبول وطنياً وأخلاقياً) لمعظم الفصائل والقوى الفلسطينية في تحالفاتها مع أنظمة التبعية للاستعمار الجديد، تلك الأنظمة الوظيفية في دورة الاقتصاد الرأسمالي الدولي، الذي تلعب به المستوطنة الصهيونية دوراً مرموقاً.
إن التعريج على هذا الماضي الفلسطيني المشرق بوجه تواطؤ الفصائل الفلسطينية مع النظام الأسدي المجرم، أباً وابناً، ما هو إلا البدء بوضع اللّبنات الأولى في صرح تضافر النضال الوطني للشعب الفلسطيني مع نضال الشعب السوري (والشعوب العربية الأخرى)، في سبيل بناء سوريا الحرة، الديمقراطية والعلمانية. وهذا سيكون تجسيداً لوحدة النضال والمصير أمام عدوٍ صهيوني مشترك.
تقديم الاعتذار من أجل إعادة اللحمة الفلسطينية-السورية
إن إعادة اللحمة الفلسطينية-السورية لا بدّ وأن تمر بتقديم من تلطخت يداه بالدم السوري والفلسطيني إلى محاكمة عادلة لمحاسبته على جرائمه (من قيادة عامة لتحرير فلسطين إلى الفيلق لتحرير القدس). أما من لم يتورط بالقتال المباشر مع النظام ضد شعبه، فعليه تقديم اعتذارٍ واضح لما اقترفه من أخطاء وخطايا. إعادة اللحمة الفلسطينية-السورية تتطلب تقديم هذا الاعتذار من جميع من ساهم فلسطينياً في الدفاع عن النظام البائد.
اعتذار جميع هؤلاء كفيل بتنقية الأجواء المسمومة التي خلفتها علاقاتهم المشبوهة بالنظام البائد، وقد يكون هذا كفيلاً باستعادة فلسطين إلى الحضن السوري الدافئ، كما قد يساهم في استعادة سوريا بوصفها رديفاً ونصيراً للنضال الوطني الفلسطيني لمواجهة العدو المشترك للشعبين السوري والفلسطيني.
في هذا السياق، لا بدّ من التنويه بمسؤولية سابقي الذكر هؤلاء عن بروز تيارات "انعزالية" (وبعضها "ثأري" معادٍ لفلسطين وأهلها وقضيتها) لدى البعض من قطاعات الشعب السوري ومثقفيه. وكيف لا ونحن شهدنا التقاء "المعارضة" الفلسطينية مع "سلطة رام الله" على دعم هذا النظام؟! فقد توحدتا على أرضية دعم النظام الأسدي، رغم تخاصمهما على كل القضايا، دون استثناء!
كيف تعود فلسطين إلى قلب سوريا؟ وكيف تعود سوريا-الشعب إلى قلب النضال الفلسطيني؟ إن في خطاب نتنياهو جواباً حاسماً عن هذا السؤال، عندما أكد في تصريحه الأخير (23 شباط/فبراير 2025) بأن سقوط النظام البائد لم يكن من مصلحة إسرائيل، فبقاؤه كان تلبية للمصالح الإسرائيلية، وهذا تكذيب لجميع أنصار النظام الأسدي البائد ممن كانت مواقف معظمهم تدّعي زوراً وبهتاناً بأنه كان قلعة الصمود والتصدي بوجه إسرائيل، متناسين عمداً أن هذه القلعة المزعومة هي من ساهم في سقوط مخيم تل الزعتر، وفي تدمير مخيم اليرموك وقتل أهله وتشريدهم.
إن إسرائيل المحتلة للأرض السورية والفلسطينية معاً هي العدو المشترك للشعبين. فلتُطوَ صفحة العار التي خطّتها بعض الشخصيات الفلسطينية ممن أصابها العمى الأيديولوجي الممزوج بانتهازية سياسية لا تليق بدم شهداء فلسطين وبتضحيات شعبها.
تحيا سوريا الحرة وتحيا شقيقتها فلسطين.