صدمات الإبادة بين العنفين العمودي والأفقي

مقال لمحمد الزريعي على صحيفة الأخبار

انتهجت إسرائيل سياستين بارزتين في إعادة تشكيل الحالة النفسية والاجتماعية لمجتمعنا، وهي «سياسة الصدمة» التي تحافظ على حالة صدمة مستمرة ومتراكمة وعابرة للأجيال، ومن أدواتها: الحصار والتهجير والإغلاقات والاعتقالات. وفي سياق الحرب الحالية: المجازر وأوامر الإخلاء المتكررة. و«سياسة الفصل»، أو «الحجز الجغرافي»، وفيها تُخلق جيوب جغرافية مختلفة في تركبيتها ومشكلاتها الاجتماعية، أو حرمان الضحايا من الاستقرار الجغرافي، ومن أدوات هذه السياسة: أوامر الإخلاء، وتهجير قرى البدو في الضفة والنقب، وفي سياق الحرب الحالية حُصر مليون نازح في جيب جغرافي ضيق لا يتعدى عرضه 2 كم، أو تحديد مناطق معينة كمناطق خطيرة تُشعر سكانها بتهديد دائم وعدم الشعور بالاستقرار.

يمكن التفصيل كثيراً في أثر السياستين، ولكنهما تشتركان في نتائج وخيمة على الصعيد السياسي والنفسي والاجتماعي، فبينما تحاول سياسة الفصل والحجز الجغرافي محاصرة الخيال، بكونه أولى خطوات الفعل، تسعى سياسة الصدمة إلى خلق عنف عمودي (وهو العنف الممارس من الطرف الأقوى، الذي هو إسرائيل، ضد الطرف الأضعف، الذي هو نحن). وبالتالي، سيترتب على العنف العمودي عنف أفقي (إذ يمارس أعضاء من المجموعة الممارَس عليها العنف، عنفاً ضد أطراف أضعف في المجموعة ذاتها) كون الممارسين للعنف الأفقي عاجزين عن مواجهة العنف العمودي، فهم كبشر بحاجة إلى تفريغ غضبهم. مثلاً: عندما يمارس جندي إسرائيلي العنف ضد رجل ما على حاجز عسكري يحاول هذا الرجل أن يمارس العنف الأفقي ضد طرف أضعف، زوجته أو أطفاله، كونه يعجز عن تعنيف جندي مدجج بالسلاح. أو أن ترتكب إسرائيل مجزرة (عنف عمودي) فيترتب عليها حالة غضب تُوجه إلى المقاومة، كون ضحايا المجزرة عاجزين عن تفريغ غضبهم في مصدر العنف الأساسي. هذه الحالة تسمى في علم النفس بـ Displacement.

في هذا النقطة تحديداً، تترتب مسؤولية كبيرة على حركات التحرر الوطني، ليس فقط في واجبها على حمل ضحايا الاستعمار لتفريغ غضبهم في الاتجاه الصحيح، بل أيضاً في ألا تكون عاملاً يغذي العنف الأفقي، أو أن تصبح حركة تحرر أو مقاومة هي ذاتها تمارس العنف الأفقي ضد ضحايا الاستعمار. وهذا يقودونا للإشارة إلى أن العنف الأفقي ليس بالضرورة أن يكون نتاج عنف استعماري، بل إن الاستبداد والكبت والعنف المجتمعي يمكن أن تكون هي ذاتها عنفاً عمودياً وليست نتيجة له.

يفترض علم النفس، في علاجه الإكلينيكي لضحايا الإبادات الاستعمارية والحروب، أن الصدمات الناتجة من بنى الاستعمار الاجتماعية والاقتصادية شأن فردي، ويغفل حقيقة أن الصدمات الاستعمارية غالباً تكون جمعيّة، لذا يحاول علم النفس، الذي سيطرت عليه المعارف الغربية الليبرالية، مساعدة ضحايا الصدمات من خلال عزلهم عن سياقهم الاجتماعي، أو فصلهم عن المجموعة البشرية التي تتعرض للصدمات، وتفترض أن الحلول للصدمات تكون في الخلاص الفردي، أو تغيير رؤية الضحية للواقع أو تجاهله تماماً.

والعطب هنا، أن علم النفس يفترض أن ضحية الصدمة الناتجة من الإبادة أو العيش تحت نظام فصل عنصري، هي صدمة الجندي الأميركي العائد من الحرب. فكما ذُكر آنفاً، يعتبر الصدمة شأناً فردياً وليست تراكمية وجمعية وعابرة للأجيال، ومن جهةٍ أخرى يرى أن مسببات الصدمة انتهت، فالعمل يمكن في علاج نتائجها، ولكن ضحية الصدمات الاستعمارية تواجه مسببات صدماتها في كل تفاصيل يومها.

هنا يُطرح بديل تحرري للعلاج الإكلينيكي الحالي، ينطلق من اعتبار أولى خطوات علاج الصدمات الاستعمارية هو وعي الضحية بمسبباتها وطبقاتها وبناها، ثم مواجهتها عبر النشاط ضدها والاشتباك معها، إذ تصير الضحية نشطة ضد صدمتها. وهنا تكمن أهمّية الاشتباك الشعبي مع منظومة الأبارتهايد/الفصل العنصري الإسرائيلي، والتي يجب أن ترعاها حركة التحرر الوطني والمقاومة، في كونه يمنح ضحايا الصدمات الاستعمارية فرصةً لمواجهة البنى الاجتماعية والسياسية التي أودت بهم للصدمات، والتي ستساعدهم على تخفيف آثارها.

سجلوا كمؤيدين لحل الدولة الديمقراطية الواحدة

للمشاركة

Scroll to Top