يحتفل الشعب السوري، وكل المنطقة معه، بسقوط أحد أسوأ وأفظع الأنظمة الاستبدادية في تاريخ منطقتنا. سقط النظام السوري الذي رسخ وجوده من خلال إرهاب المجتمع وتحويل سوريا لجمهورية خوف، مستخدمًا السجون والقمع وسيلة لتدمير المجال الحيوي السوري. سقط النظام الذي تردد في الدفاع عن شعبه واختار أن يبقى فوق ركام المدن المدمرة وجثث مئات الآلاف من السوريين، رافعًا شعار "الأسد أو نحرق البلد" وطبقه قولًا وعملًا على مدار 13 عامًا.
تُطوى اليوم سيرة الأسد ونظام البعث للأبد، ولا شك أن اليوم يوم فرح وتهنئة للشعب السوري المكلوم والمنتصر، دون الإغفال، طبعا، عن مخاطر مرحلة "ما بعد البعث" على سوريا وبلاد الشام. كما أن تقلّص الدور الإيراني في المنطقة يفتح أفق جديدة لحركتنا التحررية. وهذا ما يحتم علينا طرح الكثير من الأسئلة عن الماضي وأخطائه، والمستقبل وآفاقه.
تخطي مفاهيم مضلّلة
استخدم النظام السوري وباقي حلفاء الجمهورية الإسلامية تعبير "وحدة الساحات" للتأكيد على وحدة مواجهة العدو. على سبيل المثال، كان قد أعلن حزب الله أن "المنطقة كلها ستشتعل" لو تمّ استهداف إيران. لكنه تبين أن إيران التي تحركت عسكريا عندما تمّ استهداف ساحتها (قنصليتها في دمشق وعاصمتها) لم تتدخل عسكريا عندما تمّ قصف ساحة سوريا وتدمير ساحة لبنان وإبادة ساحة غزة. بالتالي، لم يكن هناك من "وحدة" للساحات بل مجرد "تراتبية" لها. تراتبية حدّدها، طبعًا، الطرف الأقوى، وهو الجمهورية الإسلامية… تراتبية بطعم "الاستخدام"!
يصحّ الأمر نفسه في تعبير "محور المقاومة" والّذي يروّج لفكرتين: الأولى، أن هناك "محور"، والثانية أن غايته "المقاومة". لكن الفكرتين خاطئتين. فوجود محور، أي بمعناه الحرفي "خط مستقيم" كالحديدة التي تدور حولها البكرة على سبيل المثال، يتطلب وجود ما لا يقلّ عن نقطتين متساويتين القوة إلى حدّ ما. على سبيل المثال، شكّلت ألمانيا وإيطاليا واليابان محورًا في ما يسمّى الحرب العالمية الثانية. أما "المحور" المزعوم فلا يحتوي إلا على نقطة ارتكاز واحدة، وهي الجمهورية الإسلامية، بصفتها مصدر التمويل والتسليح لباقي الأطراف و"مقرّ" الولي الفقيه الذي يعترف أطراف كحزب الله أو الحوثيين بقيادته لهم. وعليه، يخفي تعبير "المحور" مركزية وقيادة إيران لحلفائها وارتهان هؤلاء لها.
طبعًا، انخرطت أطراف في أعمال مقاومة. ولا نشكّ هنا في نيّة الأبطال الذين حملوا دمهم على كفهم لمواجهة الكيان الغاصب. لكن هدف قائد "المحور" وعدد من أطرافه لم يكن المقاومة. بدليل أن إيران هي التي نسّقت اقتصاديًا وعكسريًا مع إسرائل خلال حربها ضد العراق وبعدها. وهي التي رحّبت باتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل الذي تنازل لبنان فيه عن حقه بنفطه واعترف فيه بـ"حقوق إسرائيل". ونظام البعث في سوريا هو الذي قبض على قيادات المقاومة أمثال جورج حبش، وشارك في قتل الفلسطينيين في تل الزعتر ولاحقاً في مخيم اليرموك، وعمل على تفكيك وتخريب منظمات المقاومة الفلسطينية كما المقاومة الوطنية في لبنان، وعرض مرارًا "السلام" مع العدو الصهيوني فيما كان العدو هو من يرفض. وهذا ما يكشف غاية إيران: تحسين موقعها التفاوضي مع الكيان لا مقاومته حتى تفكيكه.
كما عملت الجمهورية الإسلامية على حصر مشروع مواجهة الكيان بالسلاح. فلم يحمل حلفائها في سوريا ولبنان والعراق واليمن مشاريع سياسية تحررية، أي مشاريع لإقامة دول تحشد طاقات مجتمعاتها لخوض مواجهة شاملة مع الكيان: شبكات أمان اجتماعي تصون لُحمة المجتمع ومؤسسات اقتصادية تنافس اقتصاد العدو ومؤسسات ثقافية تواجه السرديات الصهيونية في الداخل والخارج وهيئات مختلفة تعمل بشكل ممنهج على التأثير ببلدان الاستعمار وغيرها. بل كانت تُقابل المحاولات بهذه الاتجاهات بعنوان مألوف للعرب وهو أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو مفهوم آخر وجب نقده.
مواجهة المشروع الهوياتي
استغلّ الاستعمار الأوروبي وجود هويات دينية وإثنية مختلفة في مجتمعاتنا ليرسّخ القبلية فيها من خلال إخضاع التعداد والقيد والأعراف والمدارس والمستشفيات والسرديات "الوطنية" وغيرها لمنطق هوياتي. وهذا ما استغلّته بطبيعة الحال "الدولة اليهودية" من خلال "دعم" الدروز في فلسطين (والآن في سوريا) والموارنة في لبنان والأكراد في سوريا والعراق والأمازيغ في المغرب العربي وغيرها. وهذا ما يُحدث شروخ مجتمعية تحول دون إمكانية المجتمع المستهدف لحشد طاقاته بوجه العدو وتقود إلى التفكك المجتمعي والمجالي والسياسي، غالبًا بشكل عنفي.
عودةً إلى النظام السوري الذي كان مفصلًا مهمًا من مفاصل "المحور الإيراني" في منطقتنا، نرى أنه تبنى هذا المنطق الهوياتي عوض مواجهته. فقد بنى شبكة امتيازات للطائفة العلوية فخلق المظلومية السنيّة. وفرض العروبة على السوريين غير العرب كالسريان والأكراد، ما دفعهم لاختيار الاستقلال أو الإدارة الذاتية خيارًا بديلًا لنظام لم يعترف بحقوقهم الثقافية والإجتماعية. وحشد المقاتلين الشيعة من لبنان والعراق وايران لمواجهة الثورة السورية ممّا ساهم في تحويلها لحرب طائفية دفع كل السوريون ثمنها. وهذا ما قاد لوضع كارثي خلال العقد الماضي إذ ضرب عصب اللحمة المجتمعية بين السوريين المتنوعين عرقيًا وطائفيًا. وهو وضع يفرح العدو به، إذ صرّح أحد ضبّاطه أن "الدولة القومية الحديثة فشلت في الشرق الأوسط. لا يمكن لجميع الطوائف المختلفة في سوريا أن تعيش معاً في دولة وطنية واحدة. بالنظر من هنا عن بعد، يمكننا أن نرى بالفعل أن البلاد مقسمة بالفعل إلى أربعة كانتونات. والخطوة التالية هي جعل هذا التقسيم رسميًا."
سقط النظام السوري لأنه لم يكن لكل السوريين. لذا فإن الدرس المستفاد من سقوط الأسد أن الإستبداد وجمهوريات الخوف والتماثيل وحدها كفيلة لخلق رغبات الحرية والتغيير في قلوب الشعوب، وليست أداة ناجعة لقتلها واخمادها. كذلك فإن المنطق الهوياتي الذي لو أعيد إنتاجه سيقود لذات الكوارث التي تسبب بها النظام الأسدي، ومشروع تفتيتي جديد، يمنح الامتيازات ويسلبها على أساس الطائفة والعرق. لذا فمستقبل سوريا يجب أن يكون دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، تنبني على أساس العدالة والمساواة والمواطنة للجميع.
ختامًا، لا بد من الاستفادة من هذه الدروس. وهذا يشمل أولًا الإدراك أن لا محاور ولا غايات نبيلة للدول الموجودة، بل مصالح. وأنه لا يمكن حصر مواجهة الكيان بالسلاح. وأن المنطق الهوياتي يفتت مجتمعاتنا ويخدم العدو. وثانيًا العمل على بلورة مشاريع سياسية لبناء دول على نقيض تام مع كل ما سبق: أي دول ديمقراطية تمارس من خلالها مجتمعاتها دورها السياسي وتختار طريقة إدارة شؤونها. ودول علمانية أي دول تفصل الدين عن الدولة، ولا تدّعي شرعية دينية، بل تصون حرية المعتقد وحق اعتناق وممارسة الدين وكامل الحقوق الأساسية، وترفض منح الحقوق أو حرمانها على أساس خلفية المرء الدينية أو المعتقدية أو الثقافية.
طبعًا، لن تنشئ هذه الدول نفسها بنفسها. لذا، على صنّاع القرار والمسؤولين الحزبيين والمؤثرين والنخب الشامية والعربية التفكير مليًا بأهمية تبني مشروع لبنائها. وعلى كل فرد من أفراد مجتمعاتنا الانخراط في تنظيمات سياسية لحشد طاقاتنا لفرض هذا المشروع.