نعيش في عالم يستنزف فيه الاكتئاب طاقة المليارات. وفي الوقت نفسه، فإن فهمنا المتزايد للصحة النفسية مشوه بسبب البنية الرأسمالية. كل هذا يمثل تحديًا خاصًا لأولئك الذين قرروا الانخراط في عمل منظم لإحداث تغيير جذري. إن فهم محدودية علم النفس الحديث أمر بالغ الأهمية لمساعدتنا على الاستفادة القصوى منه واتخاذ القرارات السياسية التي تسمح لنا بالاعتناء بأنفسنا أثناء انخراطنا في العمل الثوري المنظّم.
علم النفس في عالم رأسمالي
نشأ فهمنا لعلم النفس ومقارباتنا للصحة النفسية وتطور في نظام رأسمالي، وهو يعكس أو يستند بالتالي إلى عدد من مبادئه. وهذا ليس بالضرورة نتيجة لجهود شريرة ومتعمدة لاختراق هذا المجال بالقيم الرأسمالية، بل بشكل أساسي نتيحة للانعكاسات السلبية والعضوية للهيمنة الثقافية الرأسمالية على الباحثين وعلماء النفس.
على سبيل المثال، إن العيش تحت التهديد المستمر بفقدان وظائفنا ومصدر رزقنا هو أمر ضار للغاية بصحتنا النفسية. ولكن هذا أمر طبيعي في ظل الرأسمالية، ونادرًا ما يتطرّق خبراء الصحة النفسية لهذا الأمر. على سبيل المثال، من الطبيعي أن نشعر بالقلق عند التعرض لخطر عدم القدرة على تغطية نفقات المعيشة أو بالاكتئاب عند مشاهدة الظلم. لكن ردات الفعل الصحية هذه على واقع مريض يتمّ عادةً تشخيصها على أنها أمراض تحتاج إلى علاج. كما أن التركيز المتأصل للرأسمالية والنيوليبرالية على الفرد بدلًا من المجتمع يأتي في السياق نفسه إذ يميل للتركيز على العمل الذاتي بدلًا من العمل على إحداث تغيير خارجي. وهي مقاربة محافظة لا ثورية.
وهذا يطرح عدداً من المشاكل الواضحة بالنسبة للثوريين الذين يميلون إلى أن يكونوا متباعدين عصبياً neurodivergent، وإلى أن يكونوا أكثر عزلة عن مجتمعاتهم وأن تكون احتياجاتهم غير اعتيادية وأصعب للتلبية. أولئك الذين يهتمون بحالة البشرية يميلون أيضًا إلى أن يكون لديهم وعي حاد بكمية المعاناة في العالم. وغالبًا ما يكون هذا الوعي المؤلم هو ما يدفعهم للانضمام إلى منظمة ثورية. فعلى حد تعبير تشي غيفارا، "الثائر الحقيقي يسترشد بحب عظيم. لا يمكن أن يفتقر ثوري حقيقي إلى هذه الصفة." أخيرًا، يميل العقل الفردي والمجتمع لخلق أو تبنّي مسلّمات أو متخيّلات تحمي المرء من مواجهة مرارة الواقع، كالاعتبار أنه من الطبيعي أن يستفيد ربّ العمل من أرباح شركته، أو أن لا إمكانية فعلية لتغيير النظام، أو أن تأدية المرء دوره الاجتماعي والمهني فعل سياسي كاف، أو أشكال مختلفة من الإيمانيات، وهي اعتبارات تصبّ في فكرة واحدة أن "لا داعٍ لبذل الجهد لتغيير الواقع". أما الأفراد الميالون إلى العمل الثوري فعادةً ما يكونوا قد تحرّروا من هذه المسلّمات فيختارون (أو يضطرون؟) الغوص في بشاعة الواقع. حياة الثوريين مؤلمة حقًا.
كل هذا يجعل الرعاية الذاتية أكثر أهمية بالنسبة للثوريين. وهي مهمة صعبة في ظل قلة المواد التي تعالج الهيمنة الرأسمالية والتركيبة السياسية والنفسية للثوريين، وقلة قليلة من علماء النفس الذين يدركون ذلك.
الرعاية الذاتية لمواصلة النضال
ليس كل فهمنا الحديث لعلم النفس ملوثًا بالرأسمالية. فعدد من مفاهيم وتقنيات وأساليب العلاج السائدة ذات قيمة حقيقية. ويشمل ذلك فهم الغرض من الشعور بالذنب الصحي (لتحريكنا إلى العمل "الجيد" وردعنا عن العمل "السيئ") وبالتالي تمييز الشعور بالذنب غير الصحي والتخلي عنه، كالشعور بالذنب تجاه أمور لا يمكننا فعل شيء حيالها (مثل وقف الإبادة الجماعية دون الانتظام السياسي المسبق والكافي، أو القيام بعمل سياسي أكثر مما نستطيع أو متلازمة الناجين survivor's syndrome). يساعدنا أيضًا تجنب التعرض غير الضروري للمواد المؤلمة، بما في ذلك الصور أو مقاطع الفيديو التي تُظهر الموت أو الدمار، على تجنب الصدمة المتنقلة (المدعوة أيضًا "صدمة غير مباشرة" أو "صدمة ثانوية" vicarious trauma) التي يمكن أن تستنزف الطاقة التي نحتاجها لمواصلة النضال.
ومع ذلك، حتى هذه العادات الصحية يمكن أن تصبح غير صحية عندما نستخدمها خارج نطاق الانخراط السياسي الجذري. فهدف الرعاية الذاتية ليس التطبيع مع الظلم من خلال مساعدتنا على التكيف بشكل مريح مع عالم غير عادل. بدلاً من ذلك، يجب أن تساعدنا الرعاية الذاتية على أن نبقى ثوريين فاعلين.
هناك مفهوم آخر قد يكون مفيدًا بشكل خاص وهو قبول أن الظلم والمعاناة متأصلان في الطبيعة والحياة. فبدلاً من السعي إلى إنهاء المعاناة بشكل كامل، يمكننا أن نهدف إلى العمل من أجل هدف نسبي وهو تقليل الكمية الإجمالية للمعاناة في العالم. هذا النهج الذي يتمحور حول العمل والتأثير على نقيض مع "الأمل" الخامل القائم على تمني الأفضل وإعلان موقف الرفض والوقوف كمتفرجين، وهو نهج شائع جدًا يضمن خيبة الأمل وبالتالي اليأس. أما الانتقال من المراقبة والتأمّل إلى العمل السياسي المنظم، فهو الذي يمكنه الوقوف بوجه رأس المال والاستعمار، إما بالحد من غطرستهما أو بتحقيق نجاحات ضدهما. والأهم أنه يحمل في طياته استعادة وكالتنا agency على مستقبلنا، وهذه الوكالة هي أداتنا الأساسية للرعاية الذاتية السياسية.
أبرز شكل من أشكال الرعاية الذاتية: العمل السياسي المنظم
إن وجود شبكة داعمة من الأصدقاء مفيد للغاية، خاصة عندما يشاركوننا تشخيصنا للمشكلة ورؤيتنا للحل ورغبتنا في العمل السياسي. وهذا يشمل الانضمام إلى تنظيم سياسي مدرك لأهمية الصحة النفسية والمساهمة ضمنها في هذا المجال. ولا بد من الإشارة هنا إلى خطر محتمل. فغالبًا ما لا ينتمي المختلفون العصبيون إلى البنى الاجتماعية التقليدية. لذا، حين يلتقون بأشخاص "يشبهونهم"، يميلون إلى تشكيل مجتمع خاص يمكن أن يكون أشبه بنادي اجتماعي أو بقبيلة (أي تشكّل وغايته تقديم الدعم داخله) أكثر ممّا هو حركة سياسية (أي تشكّل وغايته تأطير جهود داخله لإحداث فرق خارجه). فالتنظيم الثوري ليس "بئرًا" حيث المياه ساكنة، بل هو "خط أنابيب" يوجّه المياه المتدفقة نحو هدف محدد. ولذا الحزب الثوري ليس قبيلة ننتمي لها بل إطار تنسيقي ننتسب إليه.
يؤثر نوع المجموعة السياسية التي ننضم إليها أيضًا على صحتنا العقلية وفعاليتنا السياسية. فالنشاط activism الذي يأتي كرد فعل على أحداث محددة يتبنى أهدافًا محددة محدودة النطاق والزمن، مثل وقف الإبادة الجماعية في فلسطين. وهذا الطابع المحصور يحول دون إمكانية بناء التنظيم، إذ لا وقت لمناقشة الطرح السياسي ولا لتطوير مقدرة التنظيم. فتبقى المجموعة عاجزة عن اتخاذ قرارات جذرية خوفًا على تماسكها الهشّ، وعاجزة عن النموّ بسبب عمرها المحدود، وبالتالي عاجزة عن تراكم القوة المطلوبة للتأثير في موازين القوى. كما أنها بتبنيها هدف محدود "تضع كل بيضها في سلة واحدة". فيصبح الفشل في التأثير على مسار الأحداث، كالفشل في وقف الإبادة الجماعية، أمرًا محبطًا للغاية. بالمقابل، إن المقاربات السياسية المتكاملة، أي التي تحلل علاقات القوة التي يجب تفكيكها وتقدم رؤية لبديل، تركز على المدى البعيد، دون أن تغفل عن التعامل مع الأحداث الواقعة. وهذا ما يسمح ببناء صلابة بين من يتشاركون الرؤية طويلة الأمد، وبنموّ التنظيم وبناء قدرته على التأثير دون التقيّد بمسائل أو نتائج محددة، فتبعث المساعي والإنجازات السياسية/الثورية شعورًا بالإنجاز والتقدّم يسمح للثائرين بالاستمرار.
كما أن النظرة الصحية للعمل السياسي تسمح لنا أن نكون متوازنين في مقدار الجهد الذي نبذله. فالغالبية العظمى من الناس تسمح لهم ظروفهم المادية والنفسية تخصيص بضع ساعات أسبوعيًا للعمل السياسي، وهذا هو المطلوب بعينه. فالجهود الصغيرة والمنتظمة والمستدامة أكثر فعالية من الدفعات غير المنتظمة، إذ أن التغيير الجذري لا يعتمد على جهود فرد خارق بل على الجهود المشتركة الصغيرة التي يبذلها الآلاف المنظمون. إن إدراكنا لهذا الأمر يساعدنا على أن نكون مدفوعين بالحب والهدف بدلاً من الشعور بالذنب غير الصحي.
قرار آخر مفيد هو اختيار نوع العمل السياسي الذي نرتاح له. على سبيل المثال، قد نستمتع بالعمل الميداني، أو قد نحب أو نكره التعامل مع الناس، أو نفضل التفاعل وجهًا لوجه على التفاعل عبر الإنترنت أو العكس، أو نستمتع بالعمل بمفردنا أو في مجموعات، أو نحب المواعيد النهائية الضيقة أو العمل المنتظم البطيء، إلخ. سنحتاج في بعض الأحيان إلى تقديم تضحيات من أجل القضية، ولكن لا داعي أن يرتكز عملنا على التضحية. هناك ما يكفي من سبل العمل لنختار مجال عمل نرتاح له، بل نستمتع به.
بالطبع، بعض جوانب الحياة الظالمة، كالخسارة على أشكالها والمرض والموت، لا مفرّ منها. لكن البنى البشرية القمعية لينتنتست قدرًا. ولا شيء يمكن أن يحل محل تفكيكها لصالح بدائل محددة. وعليه، ونحن نبقي هذا الهدف طويل الأمد نصب أعيننا، يمكن أن تساعدنا الاقتراحات المطروحة هنا على ممارسة الرعاية الذاتية غير الملوثة بالرأسمالية وعلى الاستمرار في العمل الثوري المنظم.