عرف التاريخ الحديث العديد من الأيديولوجيات والأنظمة الإبادية والعنصرية، لكن الخط التاريخي المشترك للمناضلين ضدّها كان رفضها والقطيعة النهائية معها، نظرًا إلى ما تمثّله من عبءٍ أخلاقيٍ وسياسيٍ على الإنسانية كلّها. كما ترسخت قناعةٌ ثابتةٌ لدى ضحايا تلك الأنظمة، من النازية الألمانية إلى جنوب أفريقيا البيضاء، أنّه لا يمكن الوصول إلى حلّ وسط مع أنظمةٍ تمارس الإبادة الجماعية على اعتبارها حلًا لمشكلاتها السياسية والديمغرافية والأمنية، أو لأيدولوجيا ترى في ما سبق خيارًا ممكنًا ومقبولًا.
إذا اعتبرنا أنّ القطيعة النهائية مع النظام الإبادي واجبٌ تاريخيٌ ثابت فلا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال استثناء النظام الصهيوني القائم في فلسطين، من النهر إلى البحر، باعتباره نظامًا استعماريًا يتخذ من الإبادة وسيلة بقاءٍ. ومما لا شك فيه؛ أن هناك داخل الحركة الصهيونية من يدرك هذا تمامًا، ويسعى إلى خلق مخرجٍ لإسرائيل الإبادية، التي لم تتصرف على اعتبارها دولةً غير طبيعيةٍ من قبل كما تفعل الآن.
لقد سال كثيرٌ من الحبر عن الكوارث التي تسبب بها خطاب "حلّ الدولتين"، لذا فإن كاتب المقالة في غنى عن الحديث عنها حاليًا، لكن نلاحظ جميعًا اليوم كيفية تطور الصهيونية الوحشي، وظهور إسرائيل أمام العالم نظامًا عنصريًا وإباديًا علنًا، لذا فإن الحديث عن "حلّ الدولتين" حاليًا يفهم على اعتباره محاولةً لفتح بابٍ خلفيٍ لإسرائيل للخروج من أزمتها الراهنة.
إن خطاب "حلّ الدولتين"، الذي بدأ بعد أوسلو، قد أخفى بنى إسرائيل الاستعمارية، وقدم النضال الفلسطيني وقضية فلسطين على اعتبارها صراعًا حدوديًا مع دولةٍ طبيعيةٍ، والحديث عن هذا في زمن الإبادة محاولةٌ لرد الغطاء على هذا الكيان، بعد أن تكشف أمام العالم أجمع، وبعد أن صار شعار " فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر" شعارًا لكلّ أنصار فلسطين وشعبها وقضيتها حول العالم.
ما أُجمع عليه في الآونة الأخيرة "أن ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليس كما بعده"، وهذا يجب أن يشمل الخطاب الفلسطيني ورؤية التحرير الفلسطينية، والانفصال عن المشاريع التي فشلت وقادتنا إلى واقعنا الرث الذي نحياه، يعني إعادة ترديد كليشيهات "حلّ الدولتين" إعادة تجريب المجرب، وكما يُقال شعبيًا "إلي بجرب المجرب عقله مخرب"، كما يؤدي أيضًا إلى قمع أيّ محاولةٍ للتفكير في البدائل التحررية، التي تلبي تطلعات شعبنا، وتضمن العدالة لضحايا الإبادة، الذين لن يكونوا قادرين مستقبلًا على العيش وهم محاطون بالنظام الذي أبادهم من ثلاث جهاتٍ.
ختامًا؛ يجب أن نعي الخطأ الذي ارتكب سابقًا بعد توقيع اتّفاق أوسلو، الذي نتج عنه خطابٌ جديٌ لأسدال الستار عن النكبة. يعدّ الحديث عن "حلّ الدولتين" اليوم بمثابة منح نظام الاحتلال الصهيوني، ومرتكبي الإبادة صكّ غفران سياسيًا، لذا فإن الحلّ لا يكمن في تجاوز الجريمة من خلال عملية سلامٍ متخيلةٍ، بل يكمن في تفكيك البنى التي ارتكبتها، والأيدولوجيا التي بررتها. لذا يجب تبني رؤيةً تحرريةً تخاصم الأيدولوجيا الصهيونية، باعتبارها أيدولوجيا إبادية لا يمكن التعايش معها، أو التوصل لحلولٍ وسط معها، لذا يجب تبنّي خيار الدولة الديمقراطية الواحدة دولةً لكل مواطنيها، على اعتباره خيارًا بديلاً للنظام الصهيوني، عوضًا عن الحلول التي تتيح للنظام الإبادي إعادة تقديم نفسه، ما يتيح له الإفلات من العقاب. هذا ما يجب أن يفهم، وهذا ما يجب أن يكون.