النسويّة بين التحرّر وإعادة إنتاج الاستعمار: لماذا يجب أن تنحاز إلى فلسطين؟



حالة سرور ورضى، لا تستمر عادةً طويلاً، كلّما تسلمت امرأةٌ منصباً قيادياً، من تاتشر في إنكلترا إلى بيربوك في ألمانيا. لكن سرعان ما يتبدّد السرور، نتيجة الأفعال والأقوال والنهج الذكوري الذي تنتهجه القياديات. حالة السرور والخيبة، كان يمكن النجاة منها لو فهمت النسوية كحركة تسعى إلى تفكيك أنظمة القمع والهيمنة التي تمارس التمييز على أساس الجندر. لكن هذا النضال لا يمكن أن يكون صادقاً إذا تجاهل أشكال القمع الأخرى، مثل الاستعمار، والعنصرية، والاستغلال الطبقي.

وإذا كانت النسوية حركة تحررية فعلاً، فكيف يمكنها أن تبقى معادية أو محايدة تجاه القضية الفلسطينية، وهي واحدة من أبرز قضايا القمع الاستعماري في العصر الحديث؟ وكيف يمكنها أن تدّعي دعم النساء بينما تسهم في قمع النساء المهاجرات داخل المجتمعات الغربية؟

النسوية البيضاء وإعادة إنتاج الاستعمار

رغم أن الحركات النسوية نشأت في سياقات متنوعة، إلا أن النسوية البيضاء – التي تمثل التيار السائد في الغرب – غالباً ما تتبنى خطابا تحررياً لا يشمل الجميع. فهي تركز على قضايا مثل المساواة في الأجور وحقوق العمل، ولكنها تتجاهل أن النساء غير البيضاوات، والمهاجرات، والنساء في المجتمعات المستعمَرة، يواجهن قمعاً مضاعفاً يمتد إلى «العرق» والطبقة والجندرة.

ولا تكتفي النسوية البيضاء بتجاهل حقوق النساء المهاجرات أو المضطهدات خارج الجغرافية الغربية، بل تمارس دوراً وصائياً، جاعلة من نفسها المحتكرة للحقيقة والمعرفة وطريقها طريق الخلاص الواجب اتباعه، وكل من لا يسير معها في هذا الطريق ضال. وبهذا تعيد إنتاج الاستعمار عبر فرض نموذج غربي للتحرر، يُعامل على أنه النموذج الوحيد المشروع، بينما تهمّش أي تصورات أخرى للحرية. كثيراً ما يُنظر إلى النساء في المجتمعات غير الغربية كضحايا بحاجة إلى «إنقاذ»، دون الاعتراف بخياراتهن أو بسياقاتهن الخاصة. هذا الخطاب لا يختلف كثيراً عن الذريعة التي استخدمها المستعمرون سابقاً لتبرير احتلالهم، حيث ادّعوا أنهم يأتون لـ«تحضير» الشعوب المستعمَرة وإخراجها من «التخلف».

الاستعمار كمنظومة ذكورية والمجتمع المستعمَر ككيان نسوي

إذا نظرنا إلى الاستعمار من منظور جندري، يمكننا ملاحظة أنه يتبنى بنية ذكورية سلطوية، حيث يتموضع المستعمِر في موقع الرجل المهيمن، بينما تُعامل الشعوب المستعمَرة وكأنها الطرف الأنثوي الضعيف، الذي يحتاج إلى السيطرة أو التوجيه. الاستعمار ليس مجرد احتلال للأرض، بل هو مشروع قائم على العنف والوصاية والاستغلال، وهي كلها سمات تتشابه مع الأبوية. مثلما تفرض الذكورية نظاماً يجعل النساء تابعات للرجال، يفرض الاستعمار نظاماً يجعل الشعوب المستعمَرة تابعة للمستعمِر. القوة العسكرية تُستخدم لفرض الهيمنة، تماماً كما يُستخدم العنف الأبوي لفرض السيطرة داخل الأسرة أو المجتمع.

فلسطين كاختبار حقيقي للنسوية التحررية

إذا كانت النسوية تهدف إلى تفكيك أنظمة القمع، فمن غير المنطقي أن تتجاهل القضية الفلسطينية، حيث تتقاطع كل أشكال الظلم: الاستعمار، والعنصرية، والعسكرة، والعنف الجندري. النساء الفلسطينيات لا يواجهن فقط تمييزاً جندرياً، بل يعانين أيضاً من الاحتلال العسكري الذي يزيد من هشاشتهن الاجتماعية والاقتصادية.

العسكرة تؤثر على النساء بطرق خاصة، حيث يواجهن الاعتقال التعسفي، والتهجير القسري، وهدم المنازل، ما يجعلهن في أوضاع أكثر ضعفاً. كما إن تدمير البنية التحتية يحدّ من إمكانية حصولهن على التعليم، والرعاية الصحية، والاستقلال الاقتصادي. رغم ذلك، نجد أن كثيراً من الحركات النسوية الغربية إمّا تتجاهل القضية الفلسطينية أو تدعم الاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة «حقوق المرأة»، و«إسرائيل واحة الديموقراطية والتحرر في المنطقة»، متجاهلةً أن الاحتلال ذاته هو أحد أكبر مسببات العنف ضد النساء الفلسطينيات.

قمع المهاجرات: وجه آخر للنسوية البيضاء

إضافة إلى تواطئها مع الاستعمار، تلعب النسوية البيضاء دوراً رئيسياً في قمع النساء المهاجرات داخل المجتمعات الغربية نفسها. فرغم أنها ترفع شعار دعم جميع النساء، إلا أنها تتجاهل السياسات العنصرية التي تُمارس ضد المهاجرات، أو حتى تدعمها بشكل غير مباشر. على سبيل المثال، كثير من الحركات النسوية في أوروبا تدافع عن حقوق النساء في أماكن العمل، لكنها تصمت عن استغلال النساء المهاجرات في الوظائف المنخفضة الأجر، مثل العمل المنزلي أو في المصانع، حيث يتعرضن لانتهاكات متكررة دون حماية قانونية. في الوقت نفسه، يتم فرض قيود صارمة على المهاجرات اللواتي يسعين إلى الحصول على وضع قانوني مستقر، ما يجعلهن أكثر عرضة للاستغلال.

أحد أكثر الأمثلة وضوحاً هو القوانين التي تستهدف النساء المسلمات، مثل حظر الحجاب في الأماكن العامة في بعض الدول الأوروبية. هذه القوانين تُروَّج على أنها إجراءات «تحررية»، ولكنها في الحقيقة تُقصي النساء المسلمات من الفضاء العام وتحدّ من فرصهن في التعليم والعمل. هذه السياسات لا تختلف كثيراً عن الأبوية، التي تفرض على النساء ماذا يجب أن يرتدين أو كيف يجب أن يعشن حياتهن، ولكن هذه المرة تأتي في شكل «نسوي» يزعم أنه يحرّرهن.

النسوية الحقيقية لا تكون محايدة

التحرّر الحقيقي لا يمكن أن يتحقق في معزل عن قضايا المضطهدين. لا يمكن لحركة تدّعي النضال ضد التمييز أن تتجاهل أنظمة الاستعمار والاستغلال التي تُبقي النساء في حالة قمع مستمر. القضية الفلسطينية ليست قضية جانبية للنسوية، بل هي اختبار لمصداقيتها: هل هي حركة تحررية فعلاً، أم مجرد امتداد لأنظمة القمع العالمية؟

وبالمثل، لا يمكن للنسوية أن تكون صادقة في نضالها إذا كانت تتجاهل النساء المهاجرات، أو تبرر القوانين العنصرية التي تستهدفهن. النسوية التي لا تنحاز إلى جميع النساء، بغض النظر عن عرقهن أو وضعهن القانوني أو هويتهن الثقافية، ليست سوى نسخة أخرى من الهيمنة التي تزعم أنها تحاربها.

القضية النسوية ليست منفصلة عن قضايا التحرّر الأخرى، بل هي جزء من نضال أوسع ضد أنظمة القمع، سواء أكانت استعمارية، أم عنصرية، أم طبقية. النسوية التي تتجاهل فلسطين، أو تتجاهل معاناة النساء المهاجرات، ليست سوى امتداد لمنظومة القمع التي تدّعي مناهضتها. النسوية الحقيقية لا تكون محايدة، بل يجب أن تكون في صف المضطهَدين، أينما كانوا، وأياً كانت أشكال الظلم التي يواجهونها.

Sign up to keep updated and express your support

Scroll to Top