مشروع ديمقراطي وانتظام سياسي لسوريا

استقبلت أغلبية الشعب السوري سقوط نظام الأسد بترحاب، ومعها كل من ناصر نضال الشعب السوري ضد الاستبداد من مختلف أنحاء العالم لكن هذا الترحاب شابه كثير من القلق على مستقبل البلاد ووحدة أراضيها، فجرائم نظام الأسد لم تتوقف على الإيغال في دماء السوريين وتدمير مدنهم وقراهم وأحيائهم وتحويل أكثر من نصفهم إلى نازحين ولاجئين، بل تعدت ذلك إلى تصحير المجتمع السوري سياسياً. فالنشاط الحزبي التنافسي العلني توقف منذ أكثر من نصف قرن، وأفرغت المنظمات الجماهيرية كالنقابات والاتحادات من مضمونها وتحولت إلى أذرع للسلطة. حتى حزب البعث الحاكم قام نظام القائد الفرد بامتصاصه من الداخل كما تفعل العنكبوت بفريستها فلم يبق منه سوى هيكل فارغ.

والحال هذه بات المجتمع السوري خاليًا من الهياكل السياسية الرسمية وغير الرسمية، فلا مجالس ولا أحزاب ولا مؤسسات أهلية. وما زاد الطين بلهً هروبه غير المسؤول الذي ترك البلد للفراغ، ما سرع في انهيار تشكيلات الجيش حتى تلك غير المشاركة في مواجهة المعارضة المسلحة، ثم فرار أفرادها. وهذا يرتقي لخيانة إضافية إذ وفّر فرصة لإسرائيل لاحتلال أراض واسعة في جنوب البلاد بذريعة غياب الجيش السوري، المنوط به تنفيذ اتفاق فض الاشتباك لعام 1974. إن ملء الفراغ كيفما اتفق ليس حلا بالضرورة بل قد يكون أسوأ من الفراغ نفسه. وليس أخطر على وحدة بلد متعدد الديانات والطوائف كسوريا من أن يحكمه نظام ديني طائفي ضعيف، لا تدعمه مؤسسة عسكرية وأمنية قوية، فكيف إذا كان هذا النظام ذا خلفية سلفية جهادية!

في يومنا هذا، وبنتيجة هروب الطاغية وانهيار نظامه، صار ثمة هامش للعمل السياسي. لا بدّ من الاستفادة من هذا الظرف، الذي قد لا يدوم، لبلورة مشروع سياسي يتخطى عناوين الديمقراطية والعدالة والحرية ليطرح سياسات مصمّمة لجبر ما كُسر وإعادة اللحمة والعافية المجتمعية السورية، أي مشروع إرساء شرعية دولة مواطنين لا دولة "مكوّنات".

التفتيت الهوياتي

عملت الأنظمة العربية على تقويض أشكال الانتظام السياسي والمصالحي كالأحزاب والنقابات، فقضت على قدرة المجتمع على ممارسة دور سياسي فاعل وتقرير مصيره بيده. وفي المقابل شجعت تشكيل أشكال من المؤسسات والانتماءات الهوياتية كالعشائر والطوائف. ففي سوريا بالتحديد عمل نظام البعث على مرّ عقود على منح الامتيازات على أساس طائفي ومناطقي وعلى قمع الأكراد باسم العروبة مسببا ومرسخا شروخا هوياتية. وهو ما استغلته دول الاستعمار ودول إقليمية.

لذا، لا بدّ من تبني مشروع سياسي ينقد، بل يرفض، منطق "المكوّنات". فما كان المجتمع السوري ليختفي لو كان أفراده من الهندوس عوض أن يكونوا من الدروز أو من السنة أو لو كانوا من التتار عوض أن يكون من العرب أو من الأكراد! وعليه، فإن المجتمع السوري ليس مكونًا من طوائف وأعراق بل من أفراد، لكل فرد، طبعًا، معتقده وثقافته ولون بشرته كما طوله ووزنه ووضعه الصحي والاجتماعي والمهني والطبقي وغيرها من الخصائص. ولا بدّ لأي مشروع سياسي يحاكي الواقع، لا المتخيلات الهوياتية التي غذّتها الأنظمة، أن ينادي بدولة مواطنة لا دولة تعددية.

ولهذا، تقع على السوريين المدركين خطر تكرار سيناريوهات لبنان والعراق مسؤولية تبني سياسات مصممة لإحداث انتقال في شكل العلاقات المجتمعية. وهذا يشمل أربعة مستويات على الأقل: أولًا، دراسة تأثير الخيارات المركزية واللامركزية، بصيغها المختلفة، على المجتمع. فعلى سبيل المثال، هل يكون تعداد السكان وحق الاقتراع على أساس مكان الإقامة أو النسب؟ هل تمنَح صلاحيات إدارية لامركزية لمناطق تتطابق عمليا مع "أكثريات" هوياتية؟ وما تأثير السماح أو عدم السماح لمناطق غنية بالبترول بالتصرّف بالأموال العائدة منها؟ ثانيًا، طرح سياسات اقتصادية إنتاجية تحرّر المواطنين من الحاجة للزعيم (أو لحليفه الرأسمالي!) وبالتالي من الانخراط في شبكاتهم الزبائنية، وتحمي سوريا من شروط مصادر تمويل خارجية. ثالثًا، ضمان احترام الثقافات المتعددة، كحق السوريين الأكراد بالتعليم بلغتهم على سبيل المثال، على أن يكون ذلك على أساس كونهم مواطنين لا على أساس "انتمائهم لمكوّن ما". ورابعًا، اتخاذ موقف واضح من المشاريع الهوياتية السنية والشيعية والعثمانية، وبشكل خاص من المشروع الصهيوني الذي أقام كيانه على زعم "حقوق اليهود القومية" والذي يعتاش من تأجيج التفتت الطائفي حوله. بكلمات أخرى، ثمة حاجة ماسة لمشروع علماني بكل ما للكلمة من معنى، أي مشروع يحترم خلفية المرء الدينية والإثنية وغيرها دون معاملة المرء على أساسها، وينظر إلى المجتمع كمجموع من المواطنين لا كطوائف.

المحاسبة والمصالحة

لم "تنتهِ" الحرب الأهلية اللبنانية بمصالحة حقيقية بين اللبنانيين. فاتفاق الطائف لم يشمل محاسبة المجرمين ولا تبني سياسات تفكّك البنية الطائفية التي سببت الحرب، وهو بهذا كان هدنة بين الطوائف المتناحرة لا مصالحة بين المواطنين. لا يجوز أن يسمح المجتمع السوري بتكرار هذه الجريمة في سوريا. فلن تطوى هذه الصفحة المظلمة من التاريخ السوري دون أمرين: أولًا، محاسبة من تلطخت أيديهم بالدمّ البريء، وثانيًا، والأهم، تفكيك المشروع السياسي الذي وظّف الهويات ليبرّر عنفه، أكان مصدره النظام أو قوى الأمر الواقع ورعاتها الدوليين.

المحاسبة أداة في يد مشروع سياسي ويجب تحديد أسسها بعناية ودقة. يمكن هنا استقاء الدروس من أسس المحاكمات التي حصلت عند سقوط النظام النازي في ألمانيا ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ففي ألمانيا، جرى محاكمة المجرمين على شكل انتقائي، إذ سُمح لعدد من النازيين بالإعفاء من المحاكمة أو من العقاب مقابل دعمهم للولايات المتحدة في وجه الاتحاد السوفييتي (ونخص هنا بالذكر العلماء الذي ساهموا في بناء التكنولوجيا العسكرية للجيش النازي والرأسماليين الذين استفادوا من، بل أداروا في بعض الأحيان معسكرات الاعتقال). ولم تجرِ محاكمة كل مجرمي الحرب، بما في ذلك "الحلفاء"، بل فقط مجرمي "المحور"، فكانت محاكمة المنتصرين للمهزومين لا محاكمة الشعب للطغاة. ولم يتمّ محاكمة مشروعهم السياسي. فعلى سبيل المثال، عوض القطيعة مع المنطق الهوياتي الذي يشكّل عصبة المشروع النازي، جرى تكراره، إذ اعتُبِر الشعب الألماني (بما في ذلك الألمان الذين حاربوا النازية) مذنبًا بحق اليهود (بما في ذلك من لم يكونوا من ضحاياه)، عوض اعتبار النازيين والفاشيين (من كل البلدان) مذنبين بحق كل ضحاياهم. وهذه المحاكمة المؤسسة على الهوية لا المشروع السياسي هي ما فسح المجال لوقوف ألمانيا، مرة أخرى، إلى جانب الاحتلال والإبادة في فلسطين.

بالمقابل، برز مثال لافت في ما سمّي "لجان الحقيقة والمصالحة" في جنوب أفريقيا. فعلى عكس المحاكم التقليدية التي تحصر اهتمامها بالتهمة أو الجريمة، فسحت المجال لضحايا الفصل العنصري التكلم بحرية عن الظلم الذي تعرضوا له، وحرصت على توثيق هذه الروايات، فشكّلت مساحة آمنة للرواية الأفريقية، وبالتالي مساحة شفاء لراويها. كما فسحت المجال لتبرئة المتهمين إذا ما اعترفوا بشكل صادق وصريح بتعدياتهم وإذا ما استطاعوا أن يبرهنوا أنهم قاموا بها نتيجة مشروع الفصل العنصري السياسي.

وفي حين لا يمكن إسقاط الدروس، يمكن الاستفادة من هذين المثالين لابتكار أسس وسبل لمحاكمة لا تحاسب بشكل انتقائي، ولا تغفل عن محاسبة من تلطخت أيديهم بالدم البريء من "قسد" أو "الهيئة"، ولا تحاسب على أساس هوياتي، بل تفسح المجال لمصالحة حقيقية بين المواطنين السوريين. ومع أنه يمكن للسوريين المبادرة ببرامج من هذا النوع على المستوى المجتمعي، لكن لا بدّ لهم من لعب دور سياسي لفرض مشروع سياسي للمحاسبة والمحاكمة على مستوى الدولة السورية نفسها.

الحاجة للانتظام السياسي لفرض الشروط

لقد أطلق السيد أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة العديد من التطمينات بخصوص حرص إدارته على عدم اتخاذ إجراءات من شأنها أن تغير من وجه البلد، آخرها خلال لقائه بأعضاء مبادرة مدنية في الرابع من كانون ثاني الجاري، حيث جدد تأكيده على أن إسقاط النظام كان بتضافر جهود كل من ناضل ضده طوال سنوات الثورة، وأنه ليس نصراً لطرف بعينه، وبذلك يكون قد فند بنفسه مقولة "من يحرر يقرر" التي رددها أنصاره، وأكد في اللقاء على أن تأجيل الانتخابات لثلاث أو أربع سنوات هو "بهدف إعداد البنية التحتية اللازمة لخوض انتخابات حقيقية ونزيهة"، وأنه "لو كان يقصد من ذلك الاستئثار بالسلطة لوقت أطول لكان دعا لانتخابات مبكرة مستغلاً فيها شعبيته الكبيرة اليوم بسبب التحرير"، وذلك بحسب ما جاء في بيان "مدنية".

مع إن تطمينات الشرع تُظهر أن هناك عقلًا راقب واستفاد من تجارب المراحل الانتقالية التي تلت انتفاضات "الربيع العربي"، لكنها لا تشكل ضمانة لأن تنتهي المرحلة الانتقالية بتأسيس دولة مواطنة يحكمها نظام ديمقراطي. فالتجربة الجديدة لا تزال غضة العود، وهي وإن كانت تسترشد بأفكار وقواعد عامة مقبولة في مسألة إدارة المراحل الانتقالية، فإن هذه الأفكار والقواعد ربما تعبر عن قناعات ذاتية للسيد الشرع والمجموعة المحيطة به وقد تكون نصائح من الآخرين، لكنها بالتأكيد لا تعكس المرجعية الفكرية للسلفية الجهادية التي كانت حركتهم جزءاً منها حتى سقوط النظام. لذا لا يوجد ما يضمن أن يستمر هذا الوضع في المستقبل القريب، فمع مضي الوقت سيبدأ الفكر القادم من أسفل، من التجربة العملية؛ يؤثر بشكل متصاعد على عملية اتخاذ القرار وتوجهات القيادة. هذه الأفكار التي هي وليدة ممارسة ليس لها مرجعية ديمقراطية وتستند إلى سلطة وصلاحيات مطلقة ستدفع بمرور الوقت لإعادة إنتاج الاستبداد وإن بعدة أيديولوجية مختلفة. فالسلطة التي تتمتع بصلاحيات مطلقة تتعارض مصالحها بالطبيعة مع إنجاز عملية تحول ديمقراطي في المجتمع ومؤسسات الحكم.

من هنا تبرز أهمية انتظام القوى الديمقراطية في المجتمع السوري في تكتلات سياسية، ويا حبذا لو كان تكتلاً واحداً، يجري تأسيسه لتحقيق هدف مركزي هو إنجاز التحول الديمقراطي وبناء دولة علمانية، بصرف النظر عن توجهات هذه القوى السياسية وخلفياتها الأيديولوجية. ويمكن تحت الهدف المركزي أن تتفق على تقاطعات فيما يخص باقي الملفات، خاصة الاقتصاد الذي يهم بشكل خاص الشارع السوري، مع تفشي الفقر ووصوله إلى مستوى غير مسبوق، فمن المهم أن يشعر الناس بأن المشروع السياسي للتكتل الديمقراطي يحمل برنامجاً يستجيب لمشاكلهم المعيشية. كما أن للخيارات الاقتصادية تأثير حاسم على حرية المجتمع السوري. فلا مشاركة ديمقراطية فاعلة لأفراد وعائلات عالقة في شبكات السلطة الزبائنية، ولا سيادة لمجتمع يحتاج التمويل الخارجي، أي أن سقوط الأسد لن يؤدي إلا إلى صعود "أسد" ثان دون خيارات اقتصادية مغايرة. لذا، لا بد للحركات السياسية الديمقراطية من بلورة مشروع عملي وقابل للتطبيق لبناء اقتصاد منتج، بدءًا من الحاجات الآنية.

طبعًا، لن تحدث هذه التغييرات بسحر ساحر. وعليه، ندعو السوريين والسوريات التواقين إلى الحرية لبلورة مشروع سياسي يتخطى الشعارات فيطرح خيارات مصممة لمعالجة التفتيت الهوياتي وللمحاسبة بهدف المصالحة ولبناء اقتصاد منتج. ونذكر بمبدأ أساسي: إذا كان طرح ما يرضي الجميع فهو "شعار" وليس "خيار"؛ بحيث يطرح الخيار طريقة للوصول إلى الهدف لا المثاليات. كما ندعو السوريين والسوريات الفاعلين سياسيا لعدم "الاستسهال" ولعب دور المطالبة والاعتراض، وهو دور انكفاء أو نأي بالنفس عن مخاصمة قوى الأمر الواقع على شرعيتهم المدّعاة. ولتحقيق هذا الهدف وفرض التفاوض مع حكومة الأمر الواقع، ندعوهم لتخطي أطر العمل التي برهنت قصورها في مجتمعات المنطقة، كالنضال الفردي وتشكيل المجموعات المحلية، نحو تأطير الجهود في تنظيمات سياسية من أحزاب ونقابات وغيرها تملك رؤية سياسية وبرنامج عمل.

قراءات ذات صلة

للعمل من أجل مستقبل ديمقراطي لسوريا والشام - مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة

سجلوا كمؤيدين لحل الدولة الديمقراطية الواحدة

للمشاركة

Scroll to Top